الثلاثاء، 8 سبتمبر 2009

د. سمير امين مفهوم القومية

1- لا شك أن القومية واقع له وجود حقيقي وفعّال وتعبيرات صارخة تتجّلى في جميع مستويات الحياة الإجتماعية واليومية للشعوب. فمعظم الناس يعترفون دون تردد بإنتمائهم إلى قومية ما، ويقصدون من وراء هذا الإعلان أنهم يرون أن ثمة قاسماً مشتركاً يجمعهم مع غيرهم من ((مواطنيهم)) في وحدة القومية، وذلك على الرغم من التميزات التي قد تفرّق بينهم وتقسّمهم الى مجموعات إجتماعية متميّزة، مثل الطبقة أو العقيدة أو الثقافة. وليس الحكم بصحّة أو وهمية القاسم المشترك المزعوم هو موضوع نقاشنا هنا؛ فمجرد الإقتناع بوجوده، أكان بشكل بشكل مطلق أم نسبي- أي في صورة تعترف بحدود هذه السمات المشتركة-، إنما يثبت حقيقة واقع القومية كظاهرة إجتماعية. هذا بديهي، ولكنه لا يعني على الإطلاق أن التوقف للتساؤل حول طبيعة الظاهرة القومية وحدودها وتناقضاتها غير ضروري، بل على العكس من ذلك، لا بد من نقد الميثولوجيات التي يقوم ((الوعي القومي)) عليها. لأن هذا الوعي قائم فعلاً على ميثولوجيات عنيدة تصعب إزالة النقاب عنها: منها ميثولوجيات تزعم أن القومية ((ظاهرة طبيعية))؛ بمعنى أنها تنتمي الى الطبيعة البيولوجية للإنسان، الأمر الذي يقود فوراً الى عنصرية وعرقية. هذا بينما التاريخ يثبت أن القوميات القائمة فعلاً في الساحة هي ظواهر إجتماعية تاريخية الطابع، تكونت ونمت في ظروف ملموسة معينة. وبما أن المسيرات التاريخية التي مرّت بها مختلف الشعوب متباينة، فلا بد من العودة الى تاريخ هذه المسيرات، إذ أن تباينها يفسر إختلاف مفاهيم القومية.2- يقوم مفهوم القومية على تناقض جوهري داخلي له، شأنه في ذلك شأن جميع المفاهيم المحددة لمجموعات إنسانية. هذا التناقض يتجلّى هنا، من ناحية، بين العمومية الإنسانية؛ أي الطابع المشترك للبشر بأجمعه، سواء أكان من حيث المميزات البيولوجية والنفسية والذهنية - الأمر الذي ينكر تماماً النظريات العرقية التي تدّعي أن الخصوصيات في هذه المجالات تتفوق على ما هو عام ومشترك -، أم من حيث مغزى المشروعات المجتمعية المستقبلية، وبين الذاتية الخصوصية التي تتجلّى في واقع تاريخ المجموعات الإنسانية تجلياً واضحاً، من الناحية الثانية.يتموضع التحدي العلمي الحقيقي في الإجابة عن هذا السؤال بالتحديد: كيف تتمفصل أبعاد الخصوصية والعمومية؟ لماذا - على صعيد التعبير الإيديولوجي للوعي الإجتماعي - يزعم البعض أن الخصوصية تنفي العمومية فيطرحون نظريات وإيديولوجيات تعطي مشروعية لهذا النظر، بينما يزعم البعض الآخر أن العمومي يفرض نفسه فرضاً - شئنا أم أبينا. إن دور التحليل العلمي هو بالتحديد قراءة نقدية للميثولوجيات والإدراكات وأساليب التفهم التي تعبّر القومية عن نفسها من خلالها، وذلك بغرض كشف سر التناقض الذي يقوم عليه مفهوم القومية.3- إن لمفهوم عمومية البشرية نفسه تاريخاً. فالإنسانية لم تصل فوراً الى مستوى التجريد المطلوب من أجل إدراك المغزى الذي يحمله هذا المفهوم، فإنحصرت تجربة المعاش على مجموعات فئوية صغيرة نسبياً - قبائل أو إثنيات، لا تهم تسميتها - ونظر أعضاء هذه المجموعات الى أنفسهم نظرة خصوصية مطلقة، دون التوصل الى إدراك مغزى وحدة البشر.وإستمرت الأوضاع على هذا النمط خلال عشرات ألوف السنين، ومن ملازمات هذا الوعي القاصر، المحبوس في آفاق ضّيقة، أن الآلهات التي تصورتها الحضارات في هذه العصور القديمة لم تخرج، هي الأخرى، عن آفاق محلية، فظلّت كائنات خاصة لكل قبيلة أو إثنية أو جماعة فئوية، دون أن يتوصل التصوّر الى كائن إلهي يخاطب البشرية بأكملها. ثم جاءت أول موجة لما أُسّميه ((الثورات الثقافية لنمط الإنتاج الخراجي)) ، وظهر معها مفهوم عمومية البشرية في صورته الأولى. أقصد هنا الألفية التي تمتد من 500 ق.م الى القرن السابع الميلادي. فقد تبلورت خلال هذه المرحلة التاريخية الديانات الكبرى التي تتقاسم الإنسانية بينها الى عصرنا، وهي الديانة الزرادشتية، التي هجرت مسرح التاريخ، والبوذية والمسيحية والإسلام، كما تبلورت أيضاً خلال هذه المرحلة الفلسفات الكبرى ذات المغزى الإنساني العمومي؛ أقصد الكونفوشيوسية والهيلينية. وتتسم جميع هذه العقائد بالقول إن للبشر قدراً واحداً، ولو إنحصرت النظرة الى هذا القدر على تأويلات تخص الآخرة. هكذا تجاوز الفكر الديني والفلسفي آفاق المحلية والخصوصية. على أن الديانات والفلسفات الجديدة ذات البعد الإنساني العمومي لم تحقق وحدة الإنسانية على صعيد الكون، فلم تسمح بذلك الظروف الموضوعية الخاصة بالمرحلة الخراجية للتاريخ. هكذا تبلورت عوالم المسيحية والإسلام والهندوكية والكونفوشيوسية. وعلى الرغم من هذا الفشل النسبي في تحقيق العولمة، أزعم أن هذا الفشل النسبي في تحقيق العولمة، أزعم أن هذه الثورة الثقافية تمثل مرحلة أولى حاسمة في تكوين مفهوم العمومية. فطرحت فكرة سابقة على أوانها، سابقة على أوانها، سابقة على نضوج الظروف التي تتيح تحقيقها، شأنها في ذلك شأن جميع الثورات الكبرى. تمثل الثورة البرجوازية التي تفتح العصر الحديث المرحلة الثانية في هذا التطور؛ وقد طرحت مفهوماً جديداً للعمومية، أغنى مضموناً. وأزعم أن فلسفة الأنوار تمثل نقطة إنطلاق هذه الحركة التي بلغت ذروتها في الثورة الفرنسية. وفيما يخص موضوعنا مباشرة، أي موضوع القومية، فقد طرحت فلسفة الأنوار مضموناً جديداً لها. كانت الشعوب قبل ذلك التاريخ تعيش واقعها على ضوء الوعي بالإنتماء الى إحدى الديانات أو الفلسفات الإقليمية الكبرى المذكورة أعلاه. فنستطيع أن نتحدث بالنسبة لتلك العصور، السابقة على الرأسمالية، عن أمم مسيحية وإسلامية وهندوكية وكونفوشيوسية. فقد كان لهذه الأمم وجود فعلي، وصدى حاسم في العديد من الممارسات السياسية والإيديولوجية والسلوك في الحياة اليومية، وذلك سواء أكانت المنطقة المعينة موحدة نسبياً من حيث نظام الحكم السياسي- وهذه الحالة هي الإستثناء- أم كانت متفتتة سياسياً، وهي القاعدة العامة. جددت فلسفة الأنوار الوعي؛ كي يستجيب الإطار المجتمعي الذي أخذ في التكون في الربع الشمالي الغربي للقارة الأوربية إنطلاقاً من عصر النهضة وفتح أمريكا (القرن السادس عشر)، أي الرأسمالية بتعبير أصح. فتبلورت أولى القوميات الحديثة في هذه الأطر المناسبة لنشأة الرأسمالية، وهي إنكلترا وفرنسا بالتحديد. أقول القوميات الحديثة؛ بمعنى أنها قوميات إزدهرت في ظل إطار الدولة-الأمة البرجوازية التي لا سابق لها في التاريخ.أضفت فلسفة الأنوار مشروعية لهذه القطيعة في التاريخ. لذلك لم تتطلع الى تكوين الدولة-الأمة البرجوازية الجديدة على أنه ناتج طبيعي للتطور، ولم تؤسس مشروعية القومية على ميثولوجيا بيولوجية مثلاً، بل اتخذت موقفاً مبدئياً معادياً تماماً، وأنمت خطاباً آخر. فأعلنت أن الدولة-المجتمع هذا هو ناتج قطيعة وانعتاق من (( الطبيعة)). فالمجتمع في منظورها ناتج ((عقد إجتماعي)) يربط الأفراد بعضهم ببعض. والعقد - كما هو معروف في القانون- هو صلة تربط أحراراً بفعل إرادتهم الحرة. فالقومية، من هذا المنظور، هي فعل عقد إجتماعي، والدولة-الأمة -القالب الذي تتكون القومية من ضمنه- لا وجود لها في غياب هذا العقد، أي دون القرار الواعي من قبل ((مواطنين))، وليست ناتج تطور (( طبيعي)) يفرض نفسه بدون عمل الوعي.طبعاً فكرة ((العقد الإجتماعي)) هي أيضاً ميثولوجية؛ بمعنى أن ظهور العلاقات الرأسمالية هو القاعدة الموضوعية التي تكّونت الدولة -الأمة على أساسها، وأن هذه العلاقات لم تنشأ بقرار من الناس. على أن هذه الميثولوجيات الجديدة لا تمتّ للماضي بصلة، فهي تجلّ لمفاهيم جديدة رافقت نشأت الرأسمالية، مفاهيم الفردية البرجوازية وحريتها؛ أي تأكيد حقوق هذا الفرد الحر في مواجهة المجتمع وانعتاقه منه، ظهور مفهوم المواطن ليحل محل الرعايا وأهل الذمة.تجلّت هذه المفاهيم الجديدة في الثورة الفرنسية تجلياً إيديولوجياً وسياسياً بارزاً. فالثورة الفرنسية زعمت أنها تؤسس ((أمة جديدة))، لا علاقة لها بالمرجعية البيولوجية (دم الأسلاف أو الأمة الدينية)؛ بل مرجعيتها الوحيدة هي قرار حر من المواطنين الذين يريدون العيش متضامنين في ظل قوانين يسنّونها هم دون قيد. لذلك ضمت هذه الأمة الجديدة الشعب الذي اشترك في الثورة بفئاته المختلفة الأصول، والمكونة من ناطقين باللغة الفرنسية ومن غير الناطقين بهذه اللغة على قدم المساواة، وكذلك-بالمقابل- لم تشمل هذه الأمة كل من نطق بالفرنسية ويعيش كمواطن في دولة أخرى. فهذه الأمة الجديدة هي ((أمة-مجتمع إيديولوجية الطابع))، ((أمة إختيار حر))، ((أمة مواطنين بإرادتهم)) وليست ((أمة طبيعية)) عنصرية، ليست أمة الأسلاف. لذلك ضمّت الأمة الفرنسية الجديدة فوراً يهودي فرنسا، رغم اختلافهم في الديانة؛ إذ أن الديانة لم تعد تمثل مرجعية معترفاً بها. أكثر من ذلك، ضمت الثورة في ذروتها العبيد السود الذين انتفضوا في هاييتي، وأعلنت أنهم استحقوا أن يكونوا مواطنين متساويين، بفضل انتفاضتهم، لأنهم أحرار بإرادتهم. مفهوم العلمانية يجد مكانه في هذا الإطار الإيديولوجي. فلا تنحصر العلمانية في مبدأ استقلال القرار السياسي عن اللاهوت. فهذا المبدأ معمول به عبر التاريخ منذ أزمنة بعيدة وفي جميع المجتمعات، على الرغم من أنه، ظاهرياً، لم يكن كذلك دائماً، وعلى الرغم من إدعاء الجماعات الإسلامية أنه لا يجب أن يكون كذلك. فالدمج بين السياسة والدين يضفي طابعاً مقدساً على ممارسات يغلب فيها طابع الإنتهازية السياسية؛ وبالتالي يلقي قناعاً يحول دون شفافية القرار، ويلغي جوهر الديمقراطية. كذلك لا ينحصر مبدأ العلمانية في ممارسة التسامح وإطلاق الحريات الدينية مهما كانت.إن مبدأ العلمانية يتجاوز كل ذلك، فهو إعلان قطيعة بالماضي والطبيعة، ويلغي المرجعية المعتمدة على السلفية، ومنها انتماء الشعب الى عقيدة دينية مشتركة. فالثورة الفرنسية أعلنت أن المسيحية هي رأي ((فلسفي)) فردي -لا أكثر- شأنها شأن أي رأي فلسفي، وليست عاملاً من عوامل البناء الإيديولوجي للمجتمع. وعلى هذا الأساس نستطيع أن ندرك مغزى ((حق اللجوء)) المسجل في إعلان حقوق الإنسان والمواطن- ديباجة الدستور- فما معنى هذا الحق؟ إن مفاده هو أن أي انسان - بغض النظر عن أصوله ولونه وآرائه(ومنها الدينية)- إذا اراد العيش في ظل قوانين الجمهورية وأن يشترك في سنها، فله الحق بالمواطنة. فليست هذه الأمة نتاج ((خصوصية)) لها جذور طبيعية وبيولوجية وتأريخية؛ بل أمة-مجتمع تزعم أنها تجلّ لمبدأ العمومية. سنجد ظواهر متماثلة تماماً في الثورة الفرنسية. فالثورة الفرنسية نصبت نفسها نموذجاً ينبغي أن يُحتذى؛ بل اعتبرت أن ثمة قوانين موضوعية لا بد أن تؤدي الى الإحتذاء بها عالمياً. ونجد فكرة متماثلة تماماً في تجربة الثورة الروسية، فهذا شأن جميع الثورات الكبر: إنها تتخطى مقتضيات الحاضر المباشر، وتشير الى اتجاه التطور المستقبلي البعيد.4- ولكن لا فلسفة الأنوار ولا الثورة الفرنسية، التي تمثّل أعظم تجلياتها في الواقع المجتمعي، قد حققت الهدف ذا البعد العمومي المعلن. لماذا؟ لأن النظام الرأسمالي الذي كانت هذه الإيديولوجية ملازمة له لم يتطلب ذلك؛ بل إن منطق الرأسمالية نفسه قد وضع حدوداً ضيقة لمبدأ العمومية المعلن. لقد اصطدم المشروع العمومي لفكر الأنوار والثورة الفرنسية بواقع التوسع الرأسمالي

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق