الشرارة ..
الطيب أحمد محي الدين .
( إكتشف اليونانيون بطبيعتهم العملية ، إن الصحف والجرائد مفيدة في تعبئة الطعمية ولف الجبنة والزيتون اكثر من فوائد قراءتها ، ومحاولة فك الغازها المحيرة التي تجعل العاقل مجنوناً ، عندما يجد خبراً واحداً منشوراً في عدة صحف بطريقة متناقضة ، فيحتار أيهما يصدق ، ويضرب أخماس في أسداس ، ثم يخرج من كل ذلك وهو اكثر حيرة ، مما كان عليه قبل قراءة تلك الجرائد ) !!
في قهوة عم مساعد في امدرمان حكايات وحكايات يرويها أفندي عجوز عن الأغاريق الذين هجروا السودان ، متحسراً على أيام كونتا ميخالوس والخواجة كوستا وخريستو وخواجة " يني " ولكنه توقف عن الحديث فجأة ، عندما إلتمعت في ذاكرته الخربة صورة خواجة شمعون . أشهر جرسون في محل اللورد بايرون الحلواني في شارع الجمهورية . ومخبز ومطعم بابا كوستا ومحلات جنبرت وخواجة بركليس . أيام كانت لليونانيين مطاعم ومخابز وحوانيت ومقاهي . وأيام كان للأفندية والسياسيون فيها صولات وجولات ، قبل هجرة أغلب اليونانيين في عهد الرئيس جعفر النميري
أولئك اليونانيون قدموا للعالم الديموقراطية وفلسفة الإنتخاب والجدل السياسي والعاب الأولمبياد . وقدموا سقراط الساخر وارسطو الشهير الذي كان العلماء المسلمين ينهلون من فيض علمه الغزير حتى إنهم لقبوه بأسم المعلم الأكبر . ولو تحدث احد اليوم عن سقراط أو افلاطون أو بركليس ربما يجد من يتهجم عليه ويتهمه بتمجيد علوم الكفار . رحم الله علماء المسلمين الأوائل أمثال ابن سينا والرازي فقد كانوا لا يجدون حرجاً في طلب العلم من الهند البوذية أو من الصين الكونفوشوسية او حتى من اليونان الوثنية .!!
قال عجوزنا الحكيم ، وهو يعتدل في مقعده في قهوة عم مساعد : ــ
( ولكن المحير في الامر هو ان أحفاد سقراط وافلاطون تركوا علوم السياسة والمنطق ، ليتجهوا الى التجارة وأدارة المخابز وفتح المطاعم ووالدكاكين وبيع الجبنة والزيتون اليوناني الممتاز والمعجنات اللذيذة . بعد أن أدركوا إن العمل بالفكر والفلسفة لا يجلب سوى الإفلاس وخراب البيوت كما حدث لسقراط ) .
سألنا العجوز : ( ماذا حدث لسقراط الحكيم ) .. ؟
: ( كان سقراط يمشي حافياً ، ويضيع وقته في حوارات سياسية وفلسفية ونقاشات لا تنتهي ، ويعود الى البيت بدون كيس الرغيف واللحم ، فتضربه زوجته الشرسة " كيلمنتا " بالمغرفة والمفراك على صلعته الكبيرة الجرداء ) .
ضحكنا جميعنا على سقراط . كان سقراط لا يتوقف عن طرح الأسئلة وإتنظار الإجابة ليبدأ ، وإستمر يجادل ويناقش حتى بعد أن حكموا عليه بالإعدام ) .
إنتظر عجوزنا الافندي الى أن خمدت الضحكات ، ثم واصل بصوته المبحوح : ــ
( إكتشف اليونانيون ، بعد ثلاثة آلاف سنة من التفلسف ، أن اليهود كانوا أشطر منهم ، عندما تركوا قضايا الفكر والسياسة التي تصدع الرؤوس ، وإستغلوا عقولهم في التجارة وجمع القروش . ولذلك أصبح اليهود سادة العالم . . وعندما تعلم اليونانيون هذا الدرس المفيد تجاهلوا ديمقراطية باركليس ومحاورات ارسطو ومقولات سقراط وإمثولات افلاطون ، وإنطلقوا الى كل مهاجر العالم . وفي حقبة قصيرة أصبح كل يوناني تاجراً ، أو صاحب دكان أو مالك مطعم أو قهوة وسجلوا في هذا المجال شهرة عالمية لا تقل عن شهرة أجدادهم القدامى في إبتكار الديموقراطية والفلسفة والنحت والخطابة . وهذا لم يكن غريباً ، فاليونان القديمة كانت بجانب ديمقراطيتها الرائدة وعلومها الحضارية ، كانت مركزاً ضخماً للتجارة العالمية ابان حقبة إمبراطوريتها الزاهرة ) .
تنحنح عجوزنا قليلاً ومسح حلقه المكرمش ، وأشار طالباً بعض الماء : ــ
( كان الصبي الأغريقي ، يخرج من جزيرته وهو يحمل " بقجة " فيها قميص قديم وفرشاة أسنان ، ليلحق عمه أو خاله في مصر والسودان أو كينيا وحتي امريكا والمكسيك او البرازيل ، ويشتغل صبي دكان ، أو جرسون في قهوة أو مطعم ، وكانوا قوماً يمتلكون صبراً أيوبياً وجلداً شديداً على تحمل مشاق العمل بلا تذمر وكانوا كذلك يمتلكون مهارات مميزة ومقدرة هائلة في فن إرضاء الزبون بخدماتهم الراقية وتقديم الطلبيات بطريقة راقية ، إضافة لذلك تميز هؤلاء الظريفون بخفة الدم مع روح شديدة المرح إذ كانوا يعوجون ألسنتهم ليرحبوا بالزبون في مدخل المطعم أو القهوة . وينادونه بأسمه بطريقة حلوة ، ويلحنون أسماء الماكولات وأصناف المشروبات ، ويجعلون الزبون يحس وكأنه إمبراطور .
كان صبي الدكان أو المحاسب البسيط اليوناني يضع المليم فوق المليم ، وهو يحلم باليوم الذي يفتتح فيه دكانه أومطعمه أو مخبزه مثل عمه الذي يعمل معه . وكان العم أو الخال يشجع هذا الطموح ويرعاه ويساعده في فتح العمل الجديد ، فهذا يعني توسع شبكة العمل . وقد عمل اليونانيون في السودان في شتى المهن وإحترفوا التجارة وأعمال المقاولات وأشغال الصرافات والبنوك وتصدير منتجات السودان وإستيراد البضائع من مختلف الدول
تميز الأغاريق في السودان بتقديرهم لقيم الشراكة والصداقة فهم قوم لطفاء عموماً يحبون الطعام الجيد ، ويقدسون علاقات العائلة ، ويحتفظون لأوطانهم وجزرهم بحنين لا مثيل له . فاليوناني المهاجر لا يتعامل إلا مع منتجات مدينته أو جزيرته التي جاء منها ، من دون كل المدن اليونانية الأخري ، فالأفضلية أولاً لأولاد بلدته ، ثم لباقي أبناء المدن اليونانية الأخرى . وقد إستطاع هؤلاء الأغاريق بناء ثروات وخلق أسماء ما تزال حية بعد رحيلهم ، ونافسوا اليهود والسوريين والأقباط وزاحموهم في كل مجال ، فما يتميز به اليوناني هو شرارة الإبداع اليونانية التي لا تزال حية متقدة في العقل اليوناني منذ أكثر من أربعة ألف عام . هذه الشرارة تجعل اليوناني بعقليته اللماحة يكتشف الفائدة في أقل الأشياء .. )
سكت العجوز ونظر نحوي ، كأنه يوجه الكلام لى وحدي :
( إكتشف اليونانيون بطبيعتهم العملية ، إن الصحف والجرائد مفيدة في تعبئة الطعمية ولف الجبنة والزيتون اكثر من قرائتها ، ومحاولة فك الغازها المحيرة التي تجعل العاقل مجنوناً ، عندما يجد خبراً واحداً منشوراً في عدة صحف بطريقة متناقضة ، فيحتار أيهما يصدق ، ويضرب أخماس في أسداس ، ثم يخرج من كل ذلك وهو اكثر حيرة ، مما كان عليه قبل قراءة تلك الجرائد ) !!
سكت عجوزنا المتفلسف . فصاح زبائن المقهى وهم يطالبونه بإكمال حكايته .. ولكن واحداً من الجالسين قال بصوت خبيث هامس : ( العجوز دا خرف .. إلا كلامه سمح بالحيل .. ) .
عندئذا ظبط العجوز نظارته السميكة ليرى الشخص الذي لدغه . ولكن نظره الضعيف لم يساعده . وكعادته عندما لا يكتشف من يسخر منه فإنه يصب جام غضبه على الجميع فصاح :
( اللي يقول انا مخرف ، أكان راجل دحين يرفع صوته ) .
سحب العجوز عكازته الشهيرة . التي لا تفارقه ، فهو رغم ثرثرته اليومية عن الديموقراطية والحوار الحضاري لا يطيق أن يعارضه أحد . ولم يكن يتورع عن إستخدام عكازه لإنهاء أي جدال . إن عجوزنا فعلاً كبير السن إلا ان " عضمه قوي " ولا عجب فهو قد أكل دهراً في مطاعم الأغاريق المشهورة بأكلاتها ومشروباتها ومعجناتها اللذيذة الممتعة .
جميع رواد قهوة عم مساعد ، لا يمكن أبداً أن ينسوا ذلك اليوم الفظيع ، الذي تشاجر فيه العجوز مع ميكانيكي ضخم كالثور كان هذا الميكانيكي مشهوراً بقوته الهائلة ، فقد كان يرفع ماكينة السيارة بدون ونش . إختلف الميكانيكي مع العجوز حول نتيجة أحدى المباريات . وثار بينهما جدال عنيف . ثم تطور الجدال الى مشاجرة ، أنهاها العجوز بضربة مباغتة من عكازه على رأس الميكانيكي الضخم ، ترنح الميكانيكي خمسة ثواني في الهواء ، قبل أن يسقط على بلاط القهوة الصلب ، وحاول عدة مرات أن ينهض لمهاجمة العجوز بلا جدوى قبل أن يسقط في بئر الغيبوبة العميق . . لم يستطع خمسة رجال حمل الميكانيكي الدائخ الي سيارة الإسعاف ، وإضطروا أخيراً لجره اليها جراً . في المستشفى إحتاج الميكانيكي المسكين ، الى ثمانية وعشرين غرزة لخياطة جرحه الكبير . بعد أن سال دمه كالطوفان وأغرق القهوة ، ثم سال الى الشارع . الغريب في الامر إن صاحبنا العجوز في تلك الساعة كان جالساً بهدوء ، يحتسي قهوته المعتادة بلا مبالاة . فقد كان يدرك إن حصانته العمرية ، وسنه الكبيرة وعلاقاته الواسعة في السوق ستضمن له نجاة محققة من جريمته النكراء التي إرتكبها بدم بارد . وفي النهاية خرج من القضية كالشعرة من العجين . .
وجد الميكانيكي المفلوق ، والذاهب الى قسم شرطة امدرمان لفتح بلاغ ، وجد نفسه أمام حشد ضخم من الأجاويد والعمائم البيضاء وأولاد الحلال والجزارون والخضرجية والخبازون وستات الشاي والعطالى واللصوص وحتى الذين يتجولون في الأسواق بلا هدف . وجدهم جميعاً يشكلون حائطاً بشرياً يسد طريقه الى مكتب البلاغات ، ويحلفون بالطلاق ، وستين يمين عليه حتى يعفو عن العجوز . وفوقهم حامت سحابة ضخمة من الغبار تنذر بشيء مجهول . حاصروا الشاكي الذي بدأ يدوخ من جديد تحت ضغط الجموع التي هجمت عليه : ( إعتبره زى أبوك . .) و (حرام عليك ، تبهدل الراجل الكبير دا . . .) و ( إختشي ياراجل عيب ... إنت حاتشتكي مين..؟ عمك .. ) !! وفي النهاية هجمت الحشود على الميكانيكي الدائخ وحملوه بتاكسي مجاناً الى بيته ، كان دمه يخر مثل المطر في " السبلوقة " وهناك رقد ثمانية شهور وثلاثة أسابيع وتسعة ايام ، قبل أن يعود الى السوق ، نحيلاً شفافاً مسوداً مثل توب الزراق الذي كان يبيعه الأقباط في أمدرمان . . وهكذا ضاعت قضية الميكانيكي المفلوق شمار في مرقة .
كان من الواضح إن مزاج عجوزنا قد تعكر ، وهكذا ضاعت حكاية لطيفة من أيام قهوة عم مساعد . فقد حاولنا بلا فائدة أن نغري العجوز بفنجان قهوة ليواصل حكاياته اللطيفة ، إلا إنه لزم صمته الفلسفي العميق .
يتبع ..
الاشتراك في:
تعليقات الرسالة (Atom)
اطربتنا يطيب بقصص ياطبس نسيت ليالي مكه نفذ اولا ثم ناقش ثانيا وربي وحشتنا ولك وحشه اخوك بن هريسه اسد الجنوب
ردحذف